في عالم يبدو وكأنه مصمم لغيرهم، يكافح الأفراد المصابون باضطراب طيف التوحد يوميًا للتأقلم. هذه المعركة الصامتة، التي غالبًا لا تُرى ولا تُلاحظ، تستهلك من طاقتهم النفسية والعصبية ما يفوق الوصف. ومع مرور الوقت، وبتراكم الضغوط والتوقعات، قد يصل هؤلاء إلى نقطة الانهيار. يسمي العلماء هذه الحالة بـ”الاحتراق النفسي التوحدي” — وهو ليس مجرد تعب مؤقت، بل حالة عميقة من الإنهاك العقلي والجسدي والنفسي تستنزف المصاب وتؤثر على جميع نواحي حياته.
لكن الإرهاق لا يتوقف عند حدود الفرد المصاب، بل يمتد ليطال أهله، معلميه، ومقدمي الرعاية. فما هو الإحتراق النفسي التوحدي؟ كيف يختلف عن الإنهاك الحسي؟ ولماذا يُهمل في كثير من الممارسات الطبية؟ هذا المقال يأخذنا في رحلة لفهم هذه الظاهرة المتفاقمة، من داخل أدمغة المصابين بالاضطراب، ومن قلب البيوت المتعبة بالصمت والقلق.
الإحتراق النفسي التوحدي: أكثر من مجرد تعب
في دراسة نوعية رائدة أجرتها الدكتورة دورا ريمَيكر وزملاؤها ضمن مبادرة AASPIRE، تم تعريف الإحتراق النفسي التوحدي كمتلازمة تنشأ نتيجة ضغط حياتي مزمن، ناتج عن التناقض بين ما يُتوقع من الشخص وما يستطيع فعليًا القيام به، في ظل غياب الدعم الكافي. يتميز الإحتراق النفسي التوحدي بإرهاق طويل الأمد (عادةً لأكثر من ثلاثة أشهر)، وانخفاض في الوظائف المعرفية والاجتماعية، وتراجع في تحمل المؤثرات الحسية.
لا يشعر من يعاني من هذا النوع من الإرهاق بالتعب فحسب، بل يعجزون عن أداء المهام اليومية البسيطة، ويختبرون فقدانًا للمهارات، وشعورًا عميقًا بالهشاشة النفسية. في وصف دقيق لأحد المشاركين في الدراسة:
“الاحتراق النفسي التوحدي هو حالة من التعب الجسدي والنفسي، والإجهاد المتفاقم، والعجز المتزايد عن التعامل مع مهارات الحياة والمدخلات الحسية والعلاقات الاجتماعية، تنتج عن سنوات من محاولة التكيف مع مطالب لا تتماشى مع احتياجاتنا”
متى يبدأ ؟ وما الذي يفاقمه؟
يمرّ الكثيرون بنوبات الاحتراق النفسي التوحدي في فترات انتقالية كالمراهقة أو التخرج أو بدء العمل. وقد يكون السبب الأساسي تراكميًا: تكميم الذات، إخفاء السمات التوحدية، والعمل على الظهور بشكل “طبيعي” (أو كما يُنتظر منهم). يُضاف إلى ذلك ضغوط الحياة اليومية، والمواقف الاجتماعية الصاخبة، والافتقار إلى بيئات تراعي الاختلافات العصبية.
وعلاوة على ذلك، تلعب الحواجز التي تمنع الأشخاص من التعبير عن إرهاقهم — مثل التقليل من معاناتهم، لوم الذات، أو عدم وجود الدعم المؤسسي المناسب — دورًا جوهريًا في جعل الحالة أكثر تعقيدًا. ففي النهاية، كيف يمكن للمرء “أخذ استراحة من الحياة”؟
كيف نميز بين الاحتراق النفسي والتعب الحسي؟
غالبًا ما يُخلط بين الاحتراق النفسي التوحدي والانهاك الناتج عن التحفيز الحسي الزائد، لكن الفارق جوهري. فبينما يمكن للإنهاك الحسي أن يتحسن بمجرد الابتعاد عن الضوضاء أو قضاء وقت في بيئة هادئة، يتطلب الاحتراق النفسي التوحدي تغييرات جوهرية في نمط الحياة، وقد يستغرق أسابيع أو شهورًا للشفاء.
تأثير الاحتراق النفسي التوحدي واسع، يتسلل إلى كل تفاصيل الحياة: في البيت، المدرسة، العمل، والعلاقات. قد يظهر عند الأطفال في صورة فقدان مفردات، أو تكرار حركات (stimming)، أو انسحاب اجتماعي. أما عند البالغين، فقد يتجلى في ضعف التنظيم الذاتي، إهمال العناية الشخصية، انخفاض الحافز، صعوبات في الكلام أو اتخاذ القرار، أو حتى أفكار انتحارية في بعض الحالات.
التعب يتجاوز حدود المصابين: إرهاق الأهل والمعالجين
لا يقف الاحتراق الذاتي والارهاق عند حدود الأفراد المصابين بالتوحد، بل يمتد كظل ثقيل على الأمهات والآباء، المعلمين، والمعالجين الذين يرافقونهم يوميًا. فالتوحد ليس حالة عابرة، بل رفيق حياة يتطلب رعاية مستمرة، وتعديلات بيئية وسلوكية لا تنتهي. هذا الضغط يولّد بدوره نوعًا من الإرهاق المتراكم، الذي قد يُغفل عنه في العيادات النفسية رغم انتشاره.
تُظهر دراسة باكستانية حديثة أن 24.5% من آباء الأطفال المصابين بالتوحد يعانون من قلق متوسط، و19% من قلق شديد، بينما كان 18% معرضين لخطر الإرهاق و4% يعانون من إرهاق فعلي. وُجد أن عمر الأب، ومستوى تعليمه، ونوع الأسرة (نووية أم ممتدة) عوامل مؤثرة في مستوى الإرهاق والقلق.
هذا يعني أن معاناة التوحد لا تخص الفرد وحده، بل تشكّل عبئًا جماعيًا على الأسرة والمجتمع. إرهاق الأهل لا يقل أهمية عن إرهاق الطفل، وهو عامل لا بد من وضعه في الاعتبار في أي خطة علاجية أو دعم نفسي.
كيف نحمي أنفسنا وأحبّاءنا من هذا الإرهاق؟
تشير الدراسات إلى عدة استراتيجيات للوقاية أو التخفيف من الإرهاق التوحدي. من أبرزها:
القبول غير المشروط: أن يجد الشخص بيئة تحتضنه كما هو، دون قناع أو مجهود لإخفاء سماته.
التفاعل مع المجتمع التوحدي: وجود أقران يشاركون التجربة يعزز الشعور بالفهم والانتماء.
الدعم الرسمي: توفير تعديلات مناسبة في العمل والمدرسة، دعم نفسي، ومساعدة يومية إن لزم.
تقليل الحمل: تقليل الأنشطة الاجتماعية، منح الجسم والعقل استراحة.
المعرفة الذاتية: فهم الذات، والتعرّف على علامات الإرهاق المبكرة، واتخاذ قرارات استباقية.
دعم الأهل: تقديم برامج تثقيفية ونفسية للأهل، وإشراكهم في مجموعات دعم يمكن أن تخفف عنهم الشعور بالوحدة والضغط.
الوقاية من الاحتراق النفسي التوحيدي
تشير الأبحاث تشير وجود عدد من العوامل الوقائية التي يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في التخفيف من حدّة هذا الاحتراق أو منعه قبل حدوثه:
الدعم الاجتماعي البنّاء: يرتبط الحصول على دعم عاطفي وعملي من الأسرة أو الأقران أو الزملاء أو مجموعات الدعم المتخصصة، بانخفاض مستويات التوتر وتحسّن مؤشرات الصحة النفسية. فالإحساس بأنك لست وحدك في مواجهة التحديات يسهم في تقوية القدرة على التحمّل.
المعرفة العلمية والتمكين المعرفي: تبيّن الدراسات أن فهم طبيعة التوحّد، وآليّات السلوك التكراري أو الحسي، وأساليب التدخّل المبكر، يحدّ من مشاعر العجز ويعزّز الكفاءة الذاتية. المعرفة تُحوّل الغموض إلى قدرة، وتخفّف من التوقعات غير الواقعية.
العناية الذاتية المنظّمة: لا تقلّ أهمية الرعاية الذاتية للأهل عن الرعاية المقدّمة للطفل. يشمل ذلك النوم الكافي، التغذية المتوازنة، النشاط البدني المنتظم، وممارسة أنشطة تُشعر المقدم بالراحة والهوية خارج دور الرعاية. فالاعتناء بالنفس ليس ترفًا، بل شرطًا أساسيًا للاستمرارية.
التنظيم وإدارة الوقت: من العوامل المساعدة أيضًا إنشاء روتين واضح ومتوازن، وتوزيع المهام ضمن الأسرة أو الفريق العلاجي، بما يخفّف من الضغط التراكمي اليومي ويمنح مساحة للمرونة.
ختامًا: حين نصغي للإرهاق، نفتح باب الشفاء
رغم أن مفهوم “الاحتراق النفسي التوحدي” ما زال ناشئًا في الأوساط الطبية، إلا أن ما نعرفه اليوم ينبّهنا إلى خطر إهماله. هذا الإرهاق لا يختفي بالراحة وحدها، بل يحتاج إلى إعادة نظر في شكل الحياة، وطريقة تعاملنا مع التوحد كحالة بشرية وليس كاضطراب يجب تقويمه.
علينا أن نكفّ عن دفع الأفراد المصابين بالتوحد للتماهي مع معايير غيرهم، وأن نبدأ في بناء بيئات تحترم اختلافاتهم، وتمنحهم — وأسرهم — فسحة من الأمان.
ربما تكون أول خطوة نحو ذلك هي الإصغاء. الإصغاء للتعب الصامت الذي يسكن وجوه الأطفال، وعيون الأمهات، وصمت الآباء. فكلما أنصتنا، كلما اقتربنا من خلق عالم أكثر عدلًا… وأقل إنهاكًا.