“لا يمكن أن يكون مصابًا بالتوحد. لم يصب أحد في عائلتنا من قبل.”
تتكرر هذه الجملة كثيرًا في عيادات التشخيص، بالغالب لا تعبّر هذه الجمل عن يقين علمي بقدر ما تكشف عن حالة نفسية معقّدة تُعرف بـ إنكار التوحد. ورغم أن اضطراب طيف التوحد من أكثر الاضطرابات النمائية دراسةً في العقود الأخيرة، إلا أن الفهم المجتمعي له ما يزال سطحيًا، ومشحونًا بالوصمة والخوف، ما يجعل لحظة التشخيص نقطة صادمة لكثير من العائلات.
إنكار التوحد هو ببساطة رفض قبول تشخيص التوحد لدى طفل أو شخص مقرّب، وقد يصيب الآباء أو الأقارب أو حتى الأفراد المصابين أنفسهم. في بدايته، يُعد الإنكار رد فعل نفسيًا طبيعيًا على الصدمة، لكنه يتحول إلى مشكلة حقيقية عندما يستمر، لأن كلفته لا تكون نفسية فقط، بل تنموية أيضًا.
لماذا ينكر الأهل طيف التوحد؟
لا ينبع الإنكار من قسوة أو إهمال، بل من مزيج معقد من المشاعر والتصورات الخاطئة.
أحد أبرز الأسباب هو سوء الفهم العلمي. لا يزال كثيرون يعتقدون أن التوحد حالة نادرة أو وراثية بحتة، أو أن الطفل سيتجاوز بعض السلوكيات مع التقدم في العمر. هذا التصور يتجاهل حقيقة أن التوحد اضطراب طيفي واسع، تتنوع فيه الأعراض والقدرات بشكل كبير.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضًا الوصمة الاجتماعية. غالبًا ما تكون خبرة المجتمع مع التوحد محصورة بحالات تحتاج إلى دعم كبير، هذا ما يُغذّي الخوف من مستقبل مظلم ومغلق. في المقابل، تُغيب قصص الأشخاص المصابين بالتوحد القادرين على التعلم والعمل وبناء علاقات اجتماعية، رغم أنها تمثل جزءًا كبيرًا من الواقع.
أما السبب الأكثر شيوعًا، فهو الصدمة وعدم التصديق. تشخيص التوحد يُجبر الأهل على إعادة رسم صورة المستقبل الذي كانوا يتخيلونه لطفلهم. في هذه اللحظة، قد يتحول الإنكار إلى آلية دفاعية تحميهم مؤقتًا من الألم، لكنها قد تُطيل المعاناة على المدى البعيد.
كيف يظهر الإنكار؟
لا يكون الإنكار دائمًا صريحًا. أحيانًا يتجلى في التشكيك بالتشخيص، أو في البحث المتكرر عن آراء طبية بديلة على أمل سماع إجابة مختلفة. وأحيانًا يظهر في الاعتقاد بأن التوحد مشكلة بسيطة يمكن علاجها بالنظام الغذائي أو المكملات فقط، رغم عدم وجود علاج شافٍ معروف حتى اليوم.
في حالات أخرى، قد ينسحب بعض الآباء عاطفيًا، خوفًا من عدم معرفتهم كيف يتعاملون مع طفلهم، أو شعورًا غير واعٍ بالذنب أو الفشل. هذه الأشكال غير المباشرة من الإنكار قد تكون الأكثر خطورة، لأنها تؤخر التدخل دون أن تُسمّى إنكارًا صريحًا.
كلفة الإنكار: الوقت الذي لا يعود
تكمن خطورة إنكار التوحد في أنه يسرق من الطفل أثمن مورد يمتلكه: الوقت.
تشير الأبحاث إلى أن التدخل المبكر يُحدث فرقًا جوهريًا في مهارات اللغة والتواصل والسلوك التكيفي. تُظهر دراسات متعددة أن نحو 37% من الأطفال الذين يُشخّصون مبكرًا قد يُظهرون تحسنًا ملحوظًا، وفي بعض الحالات لا يعودون يستوفون معايير التشخيص لاحقًا.
إحدى التجارب الموثّقة تصف طفلة كانت لا تنطق سوى كلمتين، ثم، خلال شهر واحد من التدخل المكثف، طوّرت حصيلة لغوية تجاوزت 180 كلمة وعبارة. اليوم، تتفوق أكاديميًا واجتماعيًا دون دعم إضافي. هذه القصص ليست استثناءات عاطفية، بل نتائج مدعومة بالبيانات.
كيف نكسر دائرة الإنكار؟
أول خطوة هي بث الأمل الواقعي، لا الوعود الزائفة. الخوف يغذّي الإنكار، بينما المعرفة المدعومة بالأدلة تُضعفه. الحديث عن الإمكانيات التي يفتحها التدخل المبكر يساعد الأهل على الانتقال من حالة الشلل النفسي إلى الفعل.
الخطوة الثانية هي الحديث بلغة البيانات، لا المواجهة. بدل البدء بتشخيص التوحد مباشرة، يمكن اقتراح تقييمات أقل ترهيبًا، مثل فحوصات النطق أو قوائم التحقق من مراحل النمو المعتمدة من مبادرات التدخل المبكر. أدوات مثل تقييم الطفولة المبكرة (BECA) تُحوّل القلق إلى أرقام وملاحظات ملموسة، ما يُسهّل تقبّل الواقع.
دور المحيط: التعاطف قبل الإقناع
إذا كان لديك شخص عزيز ينكر التوحد، فالتعاطف هو نقطة البداية.
شجّع الخطوات الصغيرة، وشارك قصص النجاح دون مبالغة، وتجنب لغة اللوم أو الاتهام. بدلاً من قول أنت تُنكر الحقيقة، يمكن القول: لاحظتُ بعض التأخر، وأعتقد أن التدخل المبكر قد يساعد
إنكار التوحد ليس عدوًا يجب كسره، بل مرحلة يجب فهمها وتجاوزها. وبين الخوف والقبول، قد يكون الفرق في حياة طفل كاملة هو جملة طمأنة، أو تقييم مبكر، أو شجاعة النظر إلى الواقع كما هو لا كما نتمنى أن يكون.