في أكتوبر من كل عام، يتلون العالم بثوبٍ برتقالي كإشارة على التضامن، لتُعلن المدارس والمجتمعات المحلية انطلاق شهر التوعية ضد التنمّر (National Bullying Prevention Month) — مبادرة وطنية أطلقتها PACER بهدف بناء ثقافة من اللطف والاحترام، وتذكير الجميع بأن التنمّر ليس جزءًا طبيعيًا من النمو، بل أحد أكثر أشكال العنف الممنهج التي تهدد الصحة النفسية للأطفال في عالم معاصر يتشابك فيه الواقعي بالرقمي.
منذ أن أسست المنظمة هذا الشهر الوطني عام 2006، تحوّل أكتوبر إلى مساحة زمنية يجتمع فيها الأطفال والمعلمون والآباء والباحثون وصانعو السياسات، في محاولة لإعادة كتابة سردية قديمة: أن التنمّر ليس طقس عبور ولا خبرة ضرورية ليصبح الطفل “صلبًا”، بل خلل تربوي وثقافي يعيد توزيع القوة بين الأقران على نحو غير عادل، تاركًا ندوبًا قد تمتد إلى ما بعد الطفولة بسنوات طويلة.
ما يثير الانتباه في التنمّر هو طبيعته المتكررة: إنه ليس حادثة معزولة، بل فعل يتكرر على نحو يجعل الضحية تعيش في حالة يقظة مستمرة، وكأن جهازها العصبي يُعاد برمجته ليتوقع الأذى في كل لحظة.
يظهر علم الأعصاب بوضوح أن الدماغ يتأثر بالتجارب المبكرة، وأن الأطفال الذين يتعرضون للتنمّر يطورون أنماط نشاط مشابهة لأولئك الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة.
لا يتذكر الطفل الأذى فقط، بل وأيضًا يعيد الجسد عيش التنمر على مستوى عصبي وكيميائي، وهو ما يفسر ارتباط التنمّر بزيادة معدلات الاكتئاب والقلق واضطرابات النوم وحتى التفكير الانتحاري في دراسات طويلة المدى.
ما الذي يسعى إليه شهر التوعية؟
يمكننا اختزاله في ثلاثة محاور مترابطة:
- تغيير الفهم العام للتنمر
كثيرون يرون التنمّر مجرد “مشكلة طلابية عادية” أو امراً لا مفرّ منه في المراحل المدرسية. تهدف PACER إلى قلب هذه النظرة: التنمّر ليس طقسًا عابرًا بل سلوك يجب مواجهته.
- تمكين الفئات الضعيفة
تشير دراسات UNICEF إلى أن الفئات الأكثر هشاشة — كذوي الإعاقات، أو المنتمين إلى الأقليات، أو اللاجئين — هي أكثر عرضة للتنمّر. كما تبيّن أن التنمّر ليس حادثة منعزلة بل نمط سلوكي متكرر يستند إلى فروقات في القوة أو المكانة.
- إطلاق مبادرات محلية قابلة للاستدامة
شهر أكتوبر ليس نهاية، بل نقطة انطلاق: مدارس تضع سياسات ممنهجة، مؤسسات تنظم ورش عمل، ومجتمعات تُشجّع الشباب على التعبير والمشاركة.
البيانات والارقام
تشير بيانات اليونيسف إلى أن أكثر من ثلث الشباب في 30 دولة قالوا إنهم تعرضوا للتنمّر عبر الإنترنت، وأن نحو نصف المراهقين في الفئة العمرية 13 إلى 15 عامًا واجهوا شكلاً من أشكال العنف اللفظي أو الجسدي في المدرسة. هذه ليست مجرد إحصاءات عابرة، بل مؤشرات على بنية اجتماعية تضعف فيها الضوابط الأخلاقية والرقابة المؤسسية، وتتحول المدرسة — المفترض أن تكون بيئة آمنة للنمو — إلى ساحة اختبار قاسية لا ينجو فيها إلا الأقوى.
في دراسة كبيرة شملت أكثر من 95 ألف طالب في الصين، وجد الباحثون أن الطلاب المتعرضين للتنمّر هم أكثر عرضة بنسب كبيرة لاضطرابات نفسية كالاكتئاب، القلق، اضطراب ما قبل الذهان، الأرق، والإدمان على الإنترنت.
وفي تأكيد على ما سبق، أشار تقرير UNICEF “Behind the Numbers”، أن التنمّر يرتبط بعوامل مثل التفاوت الاجتماعي، ضعف الدعم المؤسسي في المدارس، وانخفاض قدرات الصمود النفسي. وما يزيد الوضع سوءًا: التأثير الممتد. الطفل الذي يتعرض للتنمّر قد يعاني من تدنٍّ في الأداء الأكاديمي، عزوف عن الحضور، انخفاض الثقة بالنفس، وفي أسوأ الحالات، أفكار انتحارية.
منذ قرابة عقدين، بدأت الحركة المضادة عبر مبادرات مثل Unity Day التي تُلزم الجميع بارتداء البرتقالي ليوم واحد. قد يبدو الفعل بسيطًا، لكنه في جوهره تمثيل لنظرية اجتماعية: الرموز الجماعية تولد التزامًا أخلاقيًا مشتركًا. حين يرى الطفل آلاف الآخرين يرتدون اللون ذاته، يتولد إحساس بأن الرفض للتنمّر ليس موقفًا فرديًا هشًا بل اتفاقًا اجتماعيًا واسعًا. هذه القوة الرمزية هي ما يجعل شهر أكتوبر مختلفًا عن أي حملة إعلامية عابرة.
ورغم ذلك، فإن الرموز وحدها لا تكفي. التغيير المستدام يتطلب سياسات واضحة، آليات إبلاغ آمنة، تدريبًا للمعلمين على رصد الديناميكيات الصفية، وإشراك أولياء الأمور بوصفهم شركاء فاعلين لا مجرد شهود صامتين.
وفي عالم تحوّل فيه التنمّر من ساحة المدرسة إلى شاشة الهاتف، يصبح من الضروري التفكير في بُنية تحتية جديدة للحماية: تقنيات للرقابة، بروتوكولات للإبلاغ الرقمي، وأدوات دعم نفسي فوري للضحايا. المفارقة أن الأدوات الرقمية نفسها التي تُستخدم للإيذاء يمكن أن تصبح خط دفاع أول حين تُوظف بذكاء.
لكن الصراع الأعمق يظل ثقافيًا: في كثير من المجتمعات ما زال يُنظر إلى التنمّر باعتباره اختبارًا لصقل الشخصية أو وسيلة “طبيعية” لإعداد الأطفال لمواجهة قسوة العالم. هذه السردية تتعارض جذريًا مع ما تكشفه العلوم العصبية والسلوكية: أن الألم النفسي ليس تدريبًا على الحياة، بل كسر مبكر لأسس النمو السليم. إن الدفاع عن حق الطفل في بيئة آمنة ليس رفاهية، بل شرط أساسي لبناء جيل قادر على المشاركة في مجتمع صحي.
حين نخصص شهرًا كاملاً لمكافحة التنمّر، فإننا نفعل أكثر من مجرد إطلاق حملة توعوية. نحن نعيد تعريف الطفولة بوصفها حقًا اجتماعيًا، ونعلن أننا لن نترك أضعف أفرادنا يواجهون العنف وحدهم.
حين يصبح اللطف قاعدة، لا استثناء، نكون قد تجاوزنا الرموز إلى جوهر التغيير.