رغم التقدم العلمي الكبير في العقود الأخيرة، لا يزال اضطراب طيف التوحد (ASD) أحد أكثر الاضطرابات العصبية تطورًا وغموضًا على حد سواء. ومع غياب علاج واضح، يواصل الباحثون سعيهم الدؤوب لفهم أسبابه والتنبؤ بخطورته، مدفوعين بتساؤل رئيسي: ما الذي يجعل الدماغ يتطور على هذا النحو المختلف؟
في عالم تحكمه الجينات وتؤثر فيه البيئة بشكل عميق، يبدو أن طيف التوحد يمثل تقاطعًا معقدًا بين العوامل الوراثية والبيئية. ومن هنا يبرز التحدي الأكبر: التمييز بين ما هو موروث وما هو مكتسب
الجينات تلعب دورًا
تشير الدراسات الوراثية الحديثة إلى أن اضطراب طيف التوحد في معظمه اضطراب وراثي. فقد أظهرت تحليلات للتوائم أن معدل التوافق بين التوائم المتطابقة يتراوح بين 60% إلى 90%، في حين ينخفض إلى ما بين 0% و30% بين التوائم غير المتطابقة. هذا التباين يُبرز بوضوح الدور الجيني البارز
ويُقدر أن حوالي 80% من حالات طيف التوحد تعود إلى أسباب وراثية، منها ما يُورث عبر الأجيال، ومنها ما ينجم عن طفرات جينية عشوائية تحدث خلال مراحل مبكرة من التطور الجنيني. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن الجينات تصوغ أساس الاضطراب، حيث تؤثر على كيفية تطور الدماغ وتكوّن الشبكات العصبية فيه
إلا أن رحلة الباحثين نحو الجينات المسببة لم تكن سهلة. ركزت دراسات عديدة على تحديد التغيرات في “الجينات المرشحة”، لكنها واجهت تحديات عدة أبرزها صغر حجم العينات، ما قلل من القوة الإحصائية وأدى إلى نتائج غير متسقة. ورغم أن بعض التحليلات التجميعية حاولت تجاوز هذا العائق عبر دمج البيانات، فإنها غالبًا ما ركزت على جينات أو متغيرات مفردة، مما حدّ من شموليتها.
البيئة: المساهم الخفي
لكن هل الجينات وحدها كافية لتفسير هذا الاضطراب؟ الإجابة المختصرة: لا
تشير الأدلة إلى أن العوامل البيئية، وخاصة خلال فترات ما قبل الولادة وأثناءها، تفسر ما بين 9% و36% من التباين في الاستعداد للإصابة بطيف التوحد
تتنوع هذه العوامل بشكل لافت، وتتضمن حالات مثل: التقدم في عمر الأمهات والآباء، ارتفاع ضغط الدم أثناء الحمل، تسمم الحمل، سكري الحمل، والولادة المبكرة، بل وحتى الفترات القصيرة بين الحمل المتتالي. وتشير بعض الدراسات إلى أن نقص الأكسجين أثناء الولادة، واستخدام بعض الأدوية كحمض الفالبرويك، قد تكون جميعها عوامل خطر محتملة
وفي مراجعة شاملة سابقة، تبيّن أن العوامل المرتبطة بالأم — كتقدم العمر (35 عامًا فأكثر)، والسمنة قبل الحمل أو خلاله — ترتبط بشكل كبير بزيادة خطر الإصابة بالتوحد، دون وجود تحيّز في النتائج.
لكن العلاقة السببية تظل صعبة الإثبات، خاصة في ظل عوامل مشوشة كالنمط المعيشي والوضع الاجتماعي والاقتصادي، وحتى الخلفية الجينية. فكثير من هذه العوامل البيئية المحتملة ترتبط بجينات الوالدين، أو تتداخل مع العوامل الوراثية للجنين
أسطورة المطاعيم وسوء الفهم العام
رغم الأدلة القاطعة، لا تزال بعض المفاهيم الخاطئة متداولة على نطاق واسع — أشهرها ربط طيف التوحد بالمطاعيم. فحتى اليوم، لا يوجد أي دليل علمي يُثبت وجود علاقة بين المطاعيم والإصابة بطيف التوحد. وتشير الدراسات إلى أن عوامل مثل التدخين أثناء الحمل أو التعرض لمادة الثيميروسال، التي كانت تستخدم كمادة حافظة في بعض المطاعيم، لا ترتبط بطيف التوحد بأي شكل من الأشكال
بل على العكس، يرى الخبراء أن جميع العوامل المؤثرة في نشوء طيف التوحد تعمل خلال مراحل التطور الجنيني المبكرة، أي قبل أن يُولد الطفل أو يُعرض لأي من هذه العوامل البيئية الخارجية. وهذا يعزز الفكرة القائلة إن طيف التوحد ليس اضطرابًا مكتسبًا، بل حالة عصبية تطورية تتشكل أثناء نمو الدماغ في الرحم
الحاجة إلى فهم أعمق
يُعد فهم العوامل المؤثرة في طيف التوحد — الجينية منها والبيئية — خطوة حاسمة نحو تحسين القدرة على التنبؤ بالإصابة وربما الوقاية منها في المستقبل. وهنا تبرز أهمية المراجعات الشاملة والتحليلات التجميعية التي تجمع بين نتائج عدة دراسات لتكوين صورة أكثر اتساقًا وشمولًا
كما أن التصميمات البحثية المستقبلية بحاجة ماسة إلى دمج المعلومات الجينية مع العوامل البيئية، مما يتيح فهم التداخل المعقّد بين الوراثة والبيئة. على سبيل المثال، يمكن لدراسات “التفاعل بين الجين والبيئة” أن توضح كيف تؤثر الجينات المختلفة على حساسية الجنين تجاه عوامل بيئية معينة، أو العكس
نحو مستقبل أكثر وضوحًا
بينما لا يزال علاج طيف التوحد بعيد المنال، فإن فك شفرة أسبابه يمكن أن يحدث فرقًا جذريًا في حياة المصابين وعائلاتهم. عبر تحديد الأطفال الأكثر عرضة للخطر في وقت مبكر، يمكن تقديم تدخلات دعم مبكرة تساهم في تحسين جودة حياتهم وتطوير مهاراتهم الاجتماعية والمعرفية
إن فهم طيف التوحد لا يعني فقط اكتشاف أسبابه، بل يتعدى ذلك إلى بناء رؤية جديدة حول كيف يتطور الدماغ البشري، ولماذا يسلك أحيانًا مسارات غير تقليدية. وبين الجينات والبيئة، يكمن سرّ قد يعيد تعريف فهمنا للدماغ نفسه