في العادة، لا يُشخّص اضطراب طيف التوحد (ASD) قبل أن يبلغ الطفل عامه الثالث أو الرابع. في هذه المرحلة تبدأ الملامح الأكثر وضوحًا في الظهور: صعوبة التواصل الاجتماعي، ضعف الاستجابة للغة، وسلوكيات متكررة أو نمطية. لكن ماذا لو كان بالإمكان أن نلتقط إشارات مبكرة لهذا الاضطراب قبل أن يترسخ في السلوك؟ ماذا لو كان دماغ الرضيع نفسه يروي الحكاية منذ أشهره الأولى؟
هذا ما حاولت الإجابة عنه دراسة نُشرت في مجلة Dialogues in Clinical Neuroscience عام 2017، أعدّها الباحثان مارك شين وجوزيف بيفن من جامعة نورث كارولاينا. تستعرض هذه الدراسة أدلة متزايدة على أن التوحد ليس حدثًا مفاجئًا، بل هو مسار تطوري يبدأ مبكرًا جدًا، وأن علامات هذا المسار يمكن رصدها في الدماغ قبل أن تصبح الأعراض السلوكية واضحة.
التوحد: اضطراب تطوري لا لحظة مفصلية
بحسب تقديرات المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراضCDC يؤثر التوحد اليوم على طفل من كل 68 طفلًا تقريبًا، وعلى الرغم من أنه يُصنّف ضمن الاضطرابات النمائية العصبية، ظل التشخيص يعتمد لعقود على ملاحظات سلوكية. لكن هذه المقاربة تُخفي حقيقة جوهرية: أن التوحد ليس لحظة يُصاب فيها الطفل فجأة، بل هو عملية تطورية تبدأ منذ الأشهر الأولى للحياة.
الفكرة الأساسية التي تقدمها الدراسة هي أن المسار العصبي لطفل مصاب بالتوحد يختلف عن المسار العصبي لطفل غير توحدي، وأن هذا الاختلاف يمكن التقاطه عبر أدوات التصوير العصبي المتقدمة حتى قبل أن ينطق الطفل أولى كلماته.
الرنين المغناطيسي وطيف التوحد
منذ أكثر من عقد، بدأ العلماء باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) لدراسة أدمغة الرضع المعرّضين لخطر التوحد. هؤلاء الأطفال هم عادةً إخوة أو أخوات لأطفال مشخصين بالتوحد، ما يجعل احتمال إصابتهم أعلى من المتوسط.
واحدة من أكثر نتائج الدراسات المبكرة لنمو الدماغ ثباتًا لدى مرضى اضطراب طيف التوحد (ASD) أن حجم الرأس طبيعي عند الولادة، ولكن بحلول سن الثانية إلى الثالثة، يتضخم حجم الدماغ بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، وجدت أدلة غير مباشرة على أن تضخم الدماغ لم يكن موجودًا عند الولادة ولكنه ظهر في نهاية السنة الأولى والثانية من العمر. وقد أكدت دراسات أخرى هذه النتيجة المتعلقة بتضخم الدماغ في سن الثانية إلى الثالثة. ومع هذا كله، وحتى وقت قريب، كانت هناك ندرة في الدراسات التي تقيس نمو الدماغ بشكل مباشر في فترة الرضاعة، بين الولادة والطفولة المبكرة. في دراسة أجريت على 55 رضيع تم الإبلاغ عن أول دليل مباشر لتصوير الرنين المغناطيسي على تضخم الدماغ في مرحلة الطفولة (10 منهم أصيبوا باضطراب طيف التوحد) تم تصويرهم طوليًا بين سن 6 و24 شهرًا. كان لدى مجموعة اضطراب طيف التوحد مسارات نمو أسرع بكثير لإجمالي حجم الدماغ، بحيث كان لدى المجموعة أحجام دماغ أكبر في المتوسط بحلول سن 12 إلى 24 شهرًا. كانت هذه أول دراسة تقيس حجم الدماغ استباقيًا خلال مرحلة الطفولة لدى ذوي اضطراب طيف التوحد؛ ومع ذلك، كان حجم العينة صغيرًا نسبيًا، وبالتالي لم تُحاول تحليل مسارات النمو الفردية.
حققت دراسة نُشرت مؤخرًا من قِبل شبكة IBIS تقدمًا ملحوظًا في توضيح النمو المبكر للدماغ لدى ذوي اضطراب طيف التوحد. في هذه الدراسة، تم متابعة المسارات الفردية لخمسة عشر رضيعًا مصابين باضطراب طيف التوحد عالي الدقة بثلاث فحوصات رنين مغناطيسي متسلسلة في أعمار 6 و12 و24 شهرًا.
على عكس الدراسات السابقة التي ركزت فقط على قياس الحجم الكلي للدماغ، قامت هذه الدراسة بتفكيك حجم الدماغ إلى مكوّنين رئيسيين:
مساحة سطح القشرة (Cortical Surface Area)
سماكة القشرة (Cortical Thickness)
ويعود السبب إلى أن حجم الدماغ يتحدد بهذين العاملين، لكن كل منهما يخضع لآليات جينية مستقلة.
أظهرت النتائج أن الأطفال الذين تم تشخيصهم لاحقًا بالتوحد مروا بمراحل مميزة في نمو الدماغ:
بين 6 و12 شهرًا: لوحظت زيادة في معدل توسع مساحة سطح القشرة.
بين 12 و24 شهرًا: ظهر تسارع في نمو حجم الدماغ الكلي.
في المقابل، لم تُسجل فروق تُذكر في سماكة القشرة عبر هذه المراحل.
الأهم من ذلك، أن زيادة نمو حجم الدماغ بين 12 و24 شهرًا ارتبطت بشكل مباشر بدرجات أعلى من أعراض التوحد الاجتماعية عند بلوغ الطفل عمر 24 شهرًا.
تؤكد هذه الدراسة أن العلامات الدماغية للتوحد تبدأ بالظهور في السنة الأولى من الحياة، أي قبل بروز الأعراض السلوكية التقليدية، ما يفتح الباب أمام إمكانية التنبؤ بالتشخيص المبكر والتدخل قبل ترسخ السمات الأساسية للاضطراب.
شبكات غير مألوفة
لم تكن القصة مقتصرة على حجم الدماغ. فقد أظهرت الأبحاث أن الأطفال المعرضين للتوحد يُظهرون اختلافات واضحة في الترابط الوظيفي بين الشبكات العصبية. الشبكات المسؤولة عن الانتباه، اللغة، والتفاعل الاجتماعي بدت وكأنها تعمل وفق “إيقاع” مختلف.
على سبيل المثال، بعض مناطق الدماغ المسؤولة عن معالجة الوجوه أو الاستجابة للأصوات البشرية أظهرت نشاطًا ضعيفًا أو غير متزامن مقارنة بالأطفال الآخرين. هذه الفجوات في الاتصال قد تفسر لاحقًا صعوبات التواصل الاجتماعي التي تُعد السمة الأبرز للتوحد.
ما وراء التشخيص المتأخر
ما تقدمه هذه النتائج هو تحول في النموذج التشخيصي. فإذا أمكن تحديد علامات التوحد في الدماغ عند عمر 6 أشهر، فهذا يعني أن التشخيص التقليدي عند عمر 3 سنوات متأخر نسبيًا. والأكثر أهمية أن التدخل المبكر – عندما يكون الدماغ أكثر مرونة – قد يحمل إمكانية إحداث فرق نوعي في مسار الطفل.
تشير أبحاث متزايدة إلى أن التدخل قبل عمر سنتين يمكن أن يحسّن بشكل ملحوظ من مهارات التواصل، الاستجابة الاجتماعية، وحتى القدرات اللغوية. لكن لا يمكن تفعيل هذا التدخل المبكر ما لم نمتلك آليات دقيقة للتنبؤ، وهو ما يجعل التصوير العصبي المبكر خطوة واعدة.
التباين الكبير في التوحد
من التحديات التي يواجهها الباحثون أن التوحد ليس “اضطرابًا واحدًا” بل طيفًا واسعًا. بعض الأطفال قد يُظهرون أعراضًا خفيفة، بينما يواجه آخرون تحديات شديدة في التواصل والسلوك.
تشير الدراسة إلى أن فهم التطورات الدماغية في المراحل الأولى يمكن أن يساعد في تفسير هذا التباين. بمعنى آخر، قد تكون هناك “مسارات دماغية متعددة” تؤدي إلى ما نطلق عليه اليوم اضطراب طيف التوحد. وإذا استطعنا رسم هذه المسارات بدقة، يمكن أن يصبح العلاج أكثر تخصيصًا – حيث يُصمَّم التدخل بما يتناسب مع نمط الدماغ الخاص بكل طفل.
الأمل والتحديات
لا شك أن هذه النتائج تفتح الباب أمام ثورة محتملة في تشخيص وعلاج التوحد. لكن التحديات لا تزال كبيرة. فالتصوير بالرنين المغناطيسي مكلف وصعب التنفيذ مع الرضع، إضافة إلى أن العلامات العصبية ليست دائمًا قاطعة. بعض الأطفال قد يُظهرون تغيرات دماغية مبكرة دون أن يُصابوا بالتوحد، والعكس صحيح.
ولهذا يؤكد الباحثون أن الهدف ليس استبدال التشخيص السلوكي الحالي، بل تعزيزه بأدوات بيولوجية قادرة على التقاط إشارات مبكرة. في المستقبل، قد تتكامل تقنيات مثل التصوير العصبي، العلامات الجزيئية، والاختبارات الجينية لتقديم صورة أدق وأكثر شمولًا.
الخلاصة
التوحد ليس لغزًا يظهر فجأة، بل هو مسار يترك بصماته في الدماغ منذ الطفولة المبكرة. بفضل تقنيات التصوير العصبي، أصبح من الممكن رصد هذه البصمات قبل أن تتحول إلى أعراض سلوكية. والتحدي أمام العلماء اليوم هو تحويل هذه المعرفة إلى أدوات عملية للتشخيص المبكر والتدخل المخصص.
في نهاية المطاف، تكمن أهمية هذه الدراسات في أنها تغيّر طريقة تفكيرنا بالتوحد: من كونه اضطرابًا “يُشخّص” متأخرًا إلى كونه عملية نمو عصبي يمكن فهمها، التنبؤ بها، وربما توجيهها. هذه ليست فقط خطوة نحو العلم، بل نحو مستقبل أكثر أملًا للأطفال وأسرهم.