تخيل أن طفلاً لا يستطيع إجراء محادثة بسيطة، لكنه قادر على عزف قطعة موسيقية معقدة بعد الاستماع لها مرة واحدة فقط. أو أن شاباً يعاني من اضطرابات نمائية، لكنه يستطيع تحديد يوم الأسبوع لأي تاريخ خلال القرون الماضية في غضون ثوانٍ. هذه الظواهر الواقعية تنتمي إلى ما يُعرف علميًا بـ”متلازمة سافانت” أو “متلازمة الحكيم” — حالة نادرة يكشف فيها بعض الأفراد عن قدرات عقلية خارقة في مجال محدد، غالبًا رغم وجود إعاقة نمائية أو معرفية عامة. وتُعد هذه المتلازمة من أكثر الظواهر غموضًا وجاذبية في علم الأعصاب، ليس فقط بسبب فرادتها بل لما تحمله من أسئلة حول طبيعة العقل البشري وحدوده الإدراكية.

التميز رغم التحديات

تُشخّص متلازمة سافانت بناءً على معيارين أساسيين: الأول هو بروز مهارة استثنائية في مجال معين تتجاوز المستوى الطبيعي، حتى بالمقارنة مع الأفراد الذين لا يعانون من أي إعاقة. أما الثاني، فيتعلق بالمستوى الفكري والسياق الذهني العام للفرد، حيث لوحظ أن بعض حالات سافانت تظهر لدى أفراد يمتلكون معدل ذكاء غير لفظي يقارب  80 دون أن يقل عن 50، مما يدل على أن المتلازمة لا تقتصر على من يعانون من إعاقات فكرية شديدة، كما كان يُعتقد سابقًا.

ومع تعمّق الدراسات، أصبح التمييز ضرورياً بين هذه الظاهرة ومفاهيم قريبة مثل “الموهبة الاستثنائية”، أو “الموهبة الفائقة”، أو حتى “الازدواجية الإدراكية” التي تشير إلى تزامن مهارتين متناقضتين، مثل التوحد والقدرة الموسيقية العالية.

التداخل مع طيف التوحد

ربما تكون العلاقة بين متلازمة سافانت واضطراب طيف التوحد من أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في هذا المجال. تشير الدراسات إلى أن قرابة 10% من المصابين بالتوحد يُظهرون قدرات تُصنف تحت طيف سافانت، وهو معدل يفوق بكثير نسبتها بين عموم الناس. في الواقع، تُعد متلازمة سافانت أحد أبرز الأمثلة على ما يُطلق عليه “التنوع العصبي”، أي أنماط التفكير والمعالجة الإدراكية غير النمطية التي قد تُنتج قدرات خارقة في سياق معين.

وتتعدد المهارات التي يظهرها أفراد سافانت، ولكن أبرزها يشمل: ذاكرة مذهلة، القدرة على إجراء حسابات تقويمية وتاريخية بسرعة، إنجاز عمليات رياضية معقدة ذهنيًا، مهارات بصرية ومكانية حادة، وإتقان الفنون أو الموسيقى دون تدريب رسمي.

ماذا يقول العلم؟

ورغم عشرات الدراسات والنماذج التفسيرية، لا يزال العلم عاجزًا عن تقديم نظرية موحدة تفسر ظهور هذه القدرات. إحدى النظريات ترى أن الأشخاص المصابين باضطراب طيف التوحد قد يمتلكون خصائص إدراكية فريدة — مثل ضعف “التماسك المركزي” الذي يجعلهم يركّزون على التفاصيل بدل الصورة الكلية، مما يساعدهم على بناء مهارات متقدمة في مجالات محددة.

نظرية أخرى أكثر جرأة تقترح أن خللًا وظيفيًا في النصف الأيسر من الدماغ — المسؤول عن اللغة والمنطق — قد يؤدي إلى تعويض من النصف الأيمن، والذي يُعد أكثر ارتباطًا بالمهارات البصرية والموسيقية. ويُعتقد أن هذا الاختلال في التوازن العصبي هو ما يُتيح “إطلاق العنان” لقدرات غير مستغلة في الدماغ البشري.

وفي سياق متصل، تُشير بعض النماذج إلى أن سلوكيات التوحد نفسها — مثل الاهتمامات الضيقة والسلوكيات المتكررة — قد تُساهم في إتقان مهارات معينة عبر ما يشبه “الممارسة القهرية”، أي التكرار المكثف والمستمر لأنشطة محددة دون ملل أو انقطاع، وهو ما يراه البعض شكلاً من أشكال “الهوس الإنتاجي”.

النماذج النفسية الحديثة

أحد النماذج النظرية الرائدة في تفسير هذا التلازم بين التوحد وسافانت هو نموذج “هابيه وفيتال” (2015)، والذي يقترح أن غياب التركيز على العالم الاجتماعي لدى بعض المصابين بالتوحد — نتيجة ما يُعرف بـ”عمى العقل” أو صعوبة فهم نوايا الآخرين — يحرر موارد عقلية تُعاد توجيهها نحو تنمية مهارات غير اجتماعية، كالموسيقى أو الحساب. هذا النموذج يربط بين ضعف في وظيفة معينة (الاجتماعية) وتطور مفرط في وظيفة أخرى (المهارة الخاصة).

أما نموذج “سيمنر وزملاؤه” (2016)، فيقدّم تفسيراً بديلاً يتمركز حول السمات الوسواسية المرتبطة بالتوحد، ويقترح أن المهارات لا تنشأ فقط من الوقت الإضافي بل من دافع داخلي قوي يدفع الفرد إلى التدريب القهري حتى الوصول إلى الكمال. وقد دعمت دراسات مثل “ليبورت وآخرون” (2016) هذا النموذج، حيث وُجد أن ذوي الذاكرة الخارقة سجلوا معدلات أعلى من الوسواس القهري مقارنة بمجموعات ضابطة.

لكن رغم جاذبية هذه النماذج، تبقى الأدلة متباينة وغير حاسمة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى محدودية أدوات البحث، وغياب المقارنات الدقيقة بين المصابين بالتوحد الذين يملكون مهارات سافانت وأولئك الذين لا يمتلكونها. 

تنمية المواهب ودور المجتمع

في ضوء هذه الخصائص، يواجه المجتمع تحدياً مزدوجاً: فهم هذه الظاهرة المعقدة من جهة، وتوفير البيئة الداعمة لها من جهة أخرى. ويمكن تنمية مواهب أفراد سافانت عبر توفير الأدوات المناسبة، مثل برامج التصميم والفنون، وتقديم بيئة منظمة تضمن الاستقرار والروتين، بالإضافة إلى إشراكهم في ورش عمل متخصصة تُصمم خصيصاً لإبراز إمكاناتهم الفريدة.

ويُعد توثيق هذه المهارات خطوة ضرورية لتعزيز ثقة الفرد بنفسه وفتح آفاق مستقبلية، سواء في التعليم أو العمل. ومن المثير للاهتمام أن الأعمال الدرامية والأفلام التي تناولت شخصيات سافانت — مثل مسلسل “الطبيب الجيد” — قد ساهمت بشكل ملموس في رفع مستوى الوعي العام بهذه المتلازمة، ما فتح باباً لنقاش علمي ومجتمعي أوسع .

سافانت العباقرة: حالات تتحدى حدود الدماغ

ورغم أن أغلب حالات سافانت تقتصر على مهارة واحدة محددة، إلا أن فئة نادرة تُعرف باسم “سافانت العباقرة” تُظهر مهارات تتجاوز حتى ما هو مألوف بين عامة الناس. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الفنان البريطاني ستيفن ويلتشير، المصاب بالتوحد، والذي اشتهر بقدرته الفائقة على رسم مناظر حضرية دقيقة من الذاكرة بعد نظرة واحدة فقط.

مثل هذه الحالات تُعيد صياغة نظرتنا التقليدية إلى العقل البشري، وتدفعنا لإعادة التفكير في ما نعتبره “نقصاً” أو “إعاقة”، حيث يظهر أن ما نراه حدوداً معرفية قد يكون، في سياق معين، بوابة إلى عبقرية كامنة.

الخاتمة: عقول غير مألوفة في عالم مألوف

تُمثل متلازمة سافانت أحد أقوى الأدلة على تنوع القدرات البشرية وتفرّد العقول. وبينما لا يزال فهمنا لهذه المتلازمة في بداياته، إلا أن ما نعرفه حتى الآن يؤكد أن الدماغ البشري يملك قدرات هائلة قد تبقى كامنة إلا في ظروف معينة. والأهم من ذلك، أن هذه القدرات ليست حكراً على “العقول النمطية”، بل قد تنمو في التحديات العصبية والنمائية.

في هذا الإطار، لا يمكن فصل متلازمة سافانت عن أسئلة أعمق تتعلق بالذكاء، والإدراك، والهوية. وربما يكون الدرس الأهم الذي تمنحنا إياه هذه الظاهرة هو أن ما يبدو لنا “اختلافًا” قد يحمل في طياته طيفًا واسعًا من الإمكانات، ينتظر فقط من يكتشفه ويمنحه المساحة لينمو.