ما الذي يجعل الموضوع مهمًا؟
ذكرنا في مقال سابق أن اضطراب طيف التوحد (ASD) هو حالة معقدة تتأثر بعوامل وراثية وبيئية متشابكة. نظرًا لأن الأعراض يمكن أن تظهر مبكرًا، حتى في عمر 18 شهرًا، فإن فهم عوامل الخطر خلال الفترة المحيطة بالولادة أصبح محط اهتمام الباحثين. ومن بين هذه العوامل، يبرز دور ضعف الخصوبة وعلاجاته، خاصةً في ظل انتشاره الواسع (واحد من كل 6 أزواج يعاني من ضعف الخصوبة) وولادة ما يقرب من 10 ملايين طفل حول العالم عبر تقنيات علاجات الخصوبة مثل التلقيح الصناعي (IVF).
لكن السؤال المطروح: هل تزيد علاجات الخصوبة من خطر إنجاب طفل مصاب بطيف التوحد؟ الإجابة ليست بسيطة، فالأدلة العلمية متضاربة، وتتأثر بعوامل متعددة مثل العمر، الولادات المتعددة، والمشكلات الصحية للأم. في هذا المقال، سنستعرض أحدث الدراسات المتعلقة في هذا الشأن بطريقة موضوعية وشاملة.
ضعف الخصوبة وعلاجاته: كيف يمكن أن تؤثر على خطر طيف التوحد؟
- العوامل الأيضية والالتهابية لدى الأم
ثبت أن بعض الاضطرابات الصحية لدى الأمهات، مثل: متلازمة تكيس المبايض (PCOS) ، بطانة الرحم المهاجرة، السمنة، ترتبط بزيادة خطر إنجاب طفل مصاب بطيف التوحد. هذه الحالات تسبب التهابات مزمنة واختلالات هرمونية قد تؤثر على تطور الجنين العصبي .
- التغيرات الجينية في النسل
أظهرت دراسات أن أطفال النساء اللاتي عانين لفترات طويلة من مشاكل في الخصوبة لديهم تغيرات جينية معينة. كما أظهرت أن الأطفال المولودين عبر الحقن المجهري (ICSI) – المستخدم غالبًا في حالات العقم الذكوري – قد يكونون أكثر عرضة لاضطرابات النمو .
هل التلقيح الصناعي وغيره من العلاجات تزيد من خطر الإصابة بطيف التوحد؟
النتائج المطمئنة (لا خطر إضافي)
– أفادت دراسات أولية بأن التلقيح الصناعي (IVF) والتلقيح داخل الرحم (IUI) لا يزيدان خطر طيف التوحد بشكل ملحوظ.
– بعض الأبحاث لم تجد أي ارتباط بين العلاج الهرموني لضعف الخصوبة وزيادة الإصابة بطيف التوحد.
النتائج المثيرة للقلق (ارتفاع طفيف في الخطر)
- دراسة ضخمة شملت 5.9 مليون طفل في كاليفورنيا وجدت أن:
– الأطفال المولودين بتقنيات الإنجاب المساعد (مثل IVF) ) كانوا أكثر عرضة لطيف التوحد بمرتين.
– لكن هذا الخطر اختفي تقريبًا عند الأخذ في الاعتبار:
– الولادات المتعددة (التوائم أكثر عرضة للتوحد).
– عمر الأم (تحت 35 سنة).
– المضاعفات أثناء الحمل.
خلص الباحثون إلى أن الخطر الحقيقي ليس في التلقيح الصناعي نفسه، بل في المضاعفات المصاحبة له، مثل الولادة المبكرة أو انخفاض وزن الجنين.
ما الذي يجعل نتائج الدراسات متضاربة؟
- صغر حجم العينات في بعض الدراسات.
- عدم ضبط جميع العوامل (مثل الحالة الاجتماعية والتعليمية للأم).
- اختلاف أنواع العلاجات المدروسة (هرمونات، IVF، ICSI، إلخ).
- التركيز على فئات محددة (مثل ضعف الخصوبة الذكوري مقابل الأنثوي).
أدوية الخصوبة: هل لها دور؟
أحد الجوانب التي لم تُدرس جيدًا هو تأثير أدوية تحفيز الإباضة (مثل الكلوميد) على النسل. حتى الآن:
– دراسة واحدة فقط بحثت في الرابط بين هذه الأدوية و طيف التوحد، ولم تجد ارتباطًا ذا دلالة إحصائية، إلا في بعض الفئات الفرعية.
– أشارت تقارير إلى أن أطفال النساء اللاتي استخدمن هذه الأدوية عانوا من مشكلات صحية أكثر بعد الولادة، لكن الرابط بالتوحد غير واضح.
هذا النقص في الأبحاث، خاصة في الولايات المتحدة، يُظهر الحاجة لمزيد من الدراسات.
الولادات المتعددة: عامل الخطر الأكبر؟
أحد التفسيرات المقنعة لارتباط التلقيح الصناعي بطيف التوحد هو:
– في عمليات IVF، يُنقل غالبًا أكثر من جنين واحد لزيادة فرص الحمل، مما يؤدي إلى زيادة معدلات التوائم.
– التوائم معرضون أكثر للولادة المبكرة، والتي بدورها تزيد من خطر الإصابة طيف التوحد.
– عندما ركزت الدراسات على الأطفال المولودين بشكل فردي (وليس توائم)، تلاشت الزيادة في خطر طيف التوحد.
بشكل أوضح، تقليل نقل الأجنة إلى جنين واحد قد يقلل الخطر بشكل كبير.
هل ضعف الخصوبة نفسه (بدون علاج) يزيد الخطر؟
هذا سؤال آخر لم يُحسم بعد:
– دراستان صغيرتان وجدتا أن تاريخ ضعف الخصوبة لدى الآباء (حتى دون علاج) قد يرتبط بزيادة طفيفة في خطر طيف التوحد.
– لكن دراسة جماعية كبيرة لم تجد أي ارتباط بين أنواع ضعف الخصوبة المختلفة وطيف التوحد.
الاختلاف هنا قد يعود إلى:
- عدم توفر بيانات كاملة عن تشخيصات العقم.
- تأثير عوامل وراثية مشتركة بين ضعف الخصوبة وطيف التوحد.
الخلاصة: ماذا نعرف حتى الآن؟
- لا يوجد دليل قوي على أن التلقيح الصناعي أو أدوية الخصوبة تسبب التوحد مباشرةً.
- الخطر يزداد عند وجود مضاعفات مثل الولادات المتعددة أو الولادة المبكرة.
- بعض الحالات الصحية للأم (مثل السمنة أو PCOS) ) قد تساهم في زيادة الخطر.
- أدوية الخصوبة تحتاج مزيدًا من البحث، خاصة تلك التي تحفز الإباضة.
الرسالة الأهم:
إذا كنتم تفكرون في علاجات الخصوبة، فلا داعي للذعر. الخطر ضئيل، ويمكن تقليله عبر:
- تجنب نقل أجنة متعددة (لتفادي الولادات المتعددة).
- المتابعة الدقيقة أثناء الحمل للحد من المضاعفات.
الأبحاث المستقبلية يجب أن تركز على:
- تأثير أنواع محددة من الأدوية.
- دور الجينات المشتركة بين ضعف الخصوبة و طيف التوحد.
خاتمة: العلم لا يزال في تطور
بينما تقدم الدراسات الحالية بعض الإجابات، إلا أنها تفتح أبوابًا جديدة للتساؤلات. لا نستطيع الجزم بوجود علاقة سببية بين علاجات ضعف الخصوبة و طيف التوحد، لكننا نعرف أن إدارة الحمل بشكل صحي هي المفتاح.
أمام العلم طريق طويل، لكن كل دراسة تقربنا من فهم أكثر وضوحًا لهذا الارتباط المعقد.
إن الفهم الدقيق لهذه القضية يتطلب توازنًا بين الحذر والتفاؤل. لا نريد تخويف الأهالي، لكننا نحث على مزيد من البحث لضمان أفضل ممارسات الخصوبة. العلم يعتمد على الشك المنهجي، وكل إجابة تولد أسئلة جديدة – وهذا ما يجعل رحلتنا مثيرة!